احمد اسماعيل:رسالة الى كلب و الخبز والثورة
الخميس 03 كانون الثّاني / يناير 2013, 02:41
كورداونلاين

كانت كلمة واحدة تتردد في داخلي كثيراً ولم أستطع النطق بها رغم محاولات كثيرة لفعل ذلك، أما الآن وبمناسبة حرية التعبير وغيرها من الحريات أقولها بصراحة وبكامل الحرية: أنت كلب.
قصة: أحمد اسماعيل اسماعيل
بداية أرجو أن تقبل اعتذاري عما صدر عني حين هاتفتني آخر مرة، إذ كان ردي جافاً ولا يخلو من نزق، حسب رواية زوجتي، التي لم أشأ أن أصدق روايتها رغم قسمها برؤوس أولادها وأخوتها وأبيها وبرأسي أولاً وأخيراً، إذ كيف لي فعل ذلك مع صديق طفولتي ورفيقي الذي لم يقطع حبل التواصل معي رغم بعد المسافة بيننا، فقلت في نفسي: لا شك أنها تبالغ، ولما لا والمبالغة عندها فطرة وطبع ككل نسائنا في هذه البلاد المجنونة، اللواتي يختلفن عن نساء موطنك الجديد، في الشكل والقوام والوجه والأنوثة.. والطبع أيضاً. وأنت أعلم مني بذلك وأدرى.
ولكن، وفجأة، راحت المكالمة التي جرت بيننا تتردد في داخلي بكل تفاصيلها كشريط مسجل. واخجلتاه، كيف حدث ورددت عليك بتلك الطريقة الجافة؟!
لا شك أنك تعلم مدى حبي لك، واصراري على دوام العلاقة بيننا كما كانت قبل أن تغادر البلاد وتهاجر إلى أوربا، هل تذكر كيف كنا أيام زمان؟ أيام الدراسة الثانوية ومن ثم المرحلة الجامعية: تؤام سيامي، روح واحدة في جسدين. لقد كان ظهور أحدنا بمفرده في مكان ما وبمعزل عن صاحبه مثار تساؤل ودهشة كل الأصحاب والمعارف، هل تذكر ذلك؟ أم أن الغربة أنستك ذلك كما فعلت مع من نسوا في بلاد الغربة أوجاع أوطانهم وأهليهم بل وحليب أمهاتهم.
ولكنك لو عرفت السبب لبطل العجب، هل تعرف كم كانت الساعة حين اتصلت بي؟ لقد كانت الخامسة صباحاً، نعم الخامسة أو بعدها بقليل، ولا أعرف كم كانت عندك؛ في بلاد أوربا أوطاني، فقبل اتصالك بنحو ساعة تقريباً استسلمت للنوم؟ وذلك بعد قضاء سهرة لا أبهى ولا أجمل في مكان لن يتسنى لك ولا لكل أهل استكهولم الذين صدعت رأسي بالحديث عنهم، قضاء وقت خاطف فيه، مغامرة لا تشبه مغامراتك العاطفية التي لا تنفك تحدثني عنها، وسهرة من أجل سدِّ جوع لا يشبه جوعك الدائم إلى جسد المرأة؟ هذا الوحش الذي كان ينهش احشاءنا أيام زمان، أيام الشباب العقائدي ونحن صامتين، بل راضين ومفاخرين بهذا الصمت والرضا. لقد عدت من سهرتي تلك وأنا أبكي من شدة الانفعال، نعم أبكي يا صديقي، وكيف لا أبكي وقد قضيت أكثر من خمس ساعات في طابور طويل عريض أمام كوة الفرن الآلي، طبعاً لابدّ أن تذكر مكانه، أخشى أنك نسيت موقعه هو الآخر كما نسيت أشياء كثيرة في هذا البلد الأمين، لابأس، الفرن الآلي يا صديقي يقع مقابل الملعب البلدي والحديقة المدينة العامة، لابدّ أن تذكرته الآن، حسن، أما سبب وقوفي الطويل هذا فلم يكن للمتعة أو تزجية أوقات الفراغ، بل من أجل الحصول على الخبز، نعم الخبز أو العلف كما يحلو لبعض الظرفاء تسميته، جوع لا يشبه ذلك الجوع الذي كنا نعانيه أيام زمان للجنس أو الحرية أو حتى المعرفة التي كنا نقبل عليها أيام زمان ونلتهمها كشحاذ جائع في وليمة الأغنياء. التزمت بالوقوف في طابور طويل راح يطول ويطول، ووسط أجساد بشرية كانت تتدافع أمام كوة صغيرة تقذف ربطات الخبز في وجوهنا كالصفعات، وأمواج من الأجساد تستطيل وتتربع وتعلو وتهبط وتتداخل وهي تهدر بكل اللغات واللهجات التي تزخر بها مدينتا: شاتمة، مستجديه، باكية مستعطفه، الأمر الذي جعلني أيقن من أن وصولي إلى تلك الكوة مستحيل تماماً، فاضطررت للتسلل من وسط هذه الأمواج والذهاب نحو السماسرة الموزعين في المكان لشراء الخبز بثلاثة أضعاف ثمن الربطة الواحدة. اشتريت ربطتين وأنا سعيد بما فعلت. بل فَرِح بحظي السعيد. هذه الأزمات التي لم تكن جديدة علينا فيما مضى من الأيام، وإن كانت بدرجات أقل مما هي عليه الآن، راحت تعصف بنا بقوة وشدة، ولقد زاد التفجير الذي وقع ظهر أمس وسط المدينة وبالقرب من فرع الأمن السياسي من مخاوف الناس أن يكون ما حدث شرارة الحرب التي ستشتعل هنا أيضاً. لمعرفة الناس بأن هذا النوع من التفجيرات هو الحلقة الاولى التي سبقت مسلسل القتل والتفجير في المحافظات الأخرى، بالمناسبة، لم يكن التفجير بعيداً عن الحي الغربي الذي أسكنه، ولذلك حين سمعت دويه وخرجت إلى شرفة منزلي في الطابق الرابع، شاهدت بوضوح عمود الدخان المتصاعد نحو السماء كمارد ناري راح يتطاول ويعرض وهو يلفظ من جوفه شظايا وأشلاء وكتلاً اسمنتية وقطع الشاحنة المتفجرة، كانت الساعة الواحدة والأربعون دقيقة ظهراً، وكنت قد عدت لتوي من السوق، أحدث الانفجار ما يشبه زلزالاً ضرب المدينة فأرتجت له البيوت، اقتحمت على إثرها عاصفة قوية النوافذ والأبواب وحطمت زجاج النوافذ والمحال التجارية القريبة من الموقع.
لابدّ أنك شاهدت ما حدث أو علمت بأمره من خلال القنوات الفضائية، ألا لعنة الله عليها كلّها، المؤيدة منها وغير المؤيدة، فلقد حوّلت أخبارنا ومجريات أحداث الثورة إلى ما يشبه فيلم أو مسلسل بوليسي أصبح يثير التشويق والمتعة أكثر مما يثير الحزن أو التعاطف والغضب.
حين وجدت الهاتف بيد زوجتي وهي تطلب مني الرد على المكالمة بسرعة، لم استطع تمييز صوتك، وظننت أنني ما زلت واقفاً في ذلك الطابور الطويل، وأشاهد السماسرة ورجال الأمن ووكلاءهم الجدد يدفعون الناس ويطلقون الشتائم والإهانات، والرصاص أيضاً، وهم يصفونهم بالهمج والغوغاء، فأثار الأمر استفزازي وتفوهت بتلك الكلمات غير اللائقة، والتي كانت تتردد في داخلي حين كنت هناك وسط تلك الأمواج البشرية الهادرة، ولم اطلقها حينئذ، خجلاً وربما خوفاً، ووجدت نفسي فجأة أرسلها لك عبر الهاتف رغم اشارات زوجتي لي وهي تلكزني محذرة حيناً وتنخزني وتعض على شفتها عاتبة ومؤنبة حيناً آخر.
اعذرني يا صاحبي فأنا لم أقصدك حين وصفتك بتلك الصفات المشينة، إذ كيف يصبح من كان يحمل قيماً وطنية واخلاقية نبيلة سمساراً ومنافقاً وبليداً في يوم وليلة؟ ولكن سامحك الله، أنت السبب، حديثك الغريب عن السهرة التي قضيتها مع أجمل امرأة في أوربا هو الذي استفزني، هل كنت مخموراً؟ كم كاساً من الويسكي كنت قد كرعت؟ بل كم ليتراً؟ ستقول لي الكثير، أعلم ذلك، وأعلم أنك ستجيب: والكثير من الجميلات أيضاً كن برفقتي، اللهم بلا حسد، وحلال عليك يا عم، ولكن حذار من رواية ذلك لصديق أو شخص آخر غيري، فلولا معرفتي بما كنت عليه أيام زمان لأسأت فهمك، وقلت عنك كلاماً ووصفتك بنعوت لا تليق بشاب كان يحمل قضية شعبه بالطول والعرض قبل أن يهاجر إلى بلاد الله الأوربية، وذلك رغم ما كان يعانيه من فقر وعوز شديدين، ولكن الناس، الناس يا صديقي لم تعد في هذه الأيام كسابق عهدنا بها: بساطة وطيبة وصمت ومسايرة. الأحداث العاصفة التي تدور في الوطن كشبح، غيرت كل شيء، وأصوات المدافع ومشاهد القتل وتقطيع الأوصال ايقظت الناس على حقيقة جديدة وغيرت قناعاتهم، بل حتى سلوكياتهم، وهنا، في مدينتنا التي لم تُدرج بعد في جدول القصف والقتل والتدمير، نابت أزمة المحروقات والمواد التموينية بل وأزمة الثقة.. الثقة بكل شيء، عن تلك العمليات في قتل أرواحنا وما كنا نملك من القيم والمشاعر والنظريات المسبقة الصنع التي كنا نباهي بها الدنيا.
اعذرني يا صاحبي، يجب أن تعذرني على ما بدر مني، لو كنت مكاني في تلك المعمعة لسكبت في أذن محدثك في الهاتف ما سكبته في أذنك من كلمات نابية. قد تستغرب مني، أنا الرجل المهذب، استخدامي مفردات غير لائقة، لا تستغرب ذلك، وادعُ ربك ألا يتجاوز الأمر معي هذا الحد، فما أخشاه هو أن أتحول أنا أيضاً إلى خرتيت مثلما بدأ يحدث للناس هنا، الآن وهنا، هل تذكر الخرتيت، خرتيت يوجين يونسكو؟ تلك المسرحية العبثية التي كنا قد اعتبرناها أيام الشباب الثوري من نفايات الثقافة الغربية، ترف فكري، بدأت تصبح واقعاً في مدينتك نصف الريفية، ليس بين السياسيين رفاق الأمس وحسب، وهو ما كان ساري المفعول منذ زمن بعيد وكنا عنه غافلون، بل بين العامة أيضاً،
اسمع هذه الحكاية التي كنت شاهداً عليها: في فجر يوم من أيامنا السوداء، وأمام فرن مرادو الذي لابدّ أن تذكره، ذلك الفرن البسيط الكائن بالقرب من جامع قاسمو، جامع الوحدة في السجلات الرسمية، والذي أصبح هذه الأيام على بساطة بنائه وتواضعه أشهر من الجامع الأموي بدمشق، أو قلعة حلب، ووسط جمهرة الناس المتدافعة أمام كوة هذا الفرن، رأيت رجلاً مسناً يسقط مغشياً عليه، كم كان منظره مؤثراً حين راح يمسك بطرف نافذة الفرن خشية فقدان مكانه وضياع دوره! كانت عيون الناس تنظر إليه بشفقة دون أن تترجمها إلى فعل أو سلوك "إنساني" خشية ابتعادها عن المكان الذي احتلته بعد مدافعة وطول انتظار بالقرب من نافذة البيع، حينها كفرت بكل المبادئ والمقولات الكبرى التي كنا نؤمن بها ونرددها ليل نهار كالببغاوات.
ستقول، وكعادتك: عادية، تحدث في أرقى الأماكن، لابأس، قد تحدث هنا أو هناك، في أرقى الأماكن واحسنها، ولكن أن تتكرر بكثرة كما بدأ يحدث هنا؟ ذلك هو السؤال، تلك هي المسألة، كما يقول العم شكسبير.
هل تعرف إنك أول من خطر ببالي حين سمعت بما حدث لنساء حيك الشرقي لحظة سماعهن دوي الانفجار؟ هؤلاء الناقصات الأنوثة كما تصفهن حين تقارنهن بنساء أوربا: الهيفاوات، الشقراوات، النظيفات، الشهيات، ذات السيقان المصقولة واللامعة كالرخام، اللواتي إذا سكبت على افخاذهن المصقولة السمن البلدي ورحت تلحسه بلسانك فلابدَّ من أنك ستستعيده كاملاً وبنكهة افرنجية، ولك يا سيامندو أن تتخيل ماذا سيحدث لك حين تطبق التجربة على أفخاذ ناقصات الأنوثة عندنا. كلامك هذا الذي حفظته عن ظهر قلب هو من جعلني أتذكرك في لحظة عصيبة كهذه، وما زلت ضحكتك الماجنة تتردد في أذني بعد أن أفرغت حديثك هذا فيها تاركاً إياي على الطرف الثاني من الخط أتلمظ وألهث مثل كلب.
لقد ركضت ناقصات الأنوثة جميعهن في الشوارع وهن حافيات، سافرات، بعضهن كان في ثياب النوم، وأخريات كن يرتدين أثواباً خاصة ومخصوصة للبيت وأمام المحارم، كن يولولن وهن يتوجهن نحو مدرسة الحي الابتدائية، كثيرات منهن سقطن في منتصف الشارع ورحن يضربن تلك الأفخاذ ذات الجلود السميكة والمسامات العميقة كما وصفتهن بقوة وعنف وهن يبكين أولادهن بطريقة لا يمكن لنسائك الأوربيات ذوات الأفخاذ المصقولة اللجوء إليها حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد، لقد كثرت روايات الشهود على ما حدث للجميع، للنساء والرجال والأطفال، وكعادة أهل مدينتك، فإن المشهد الذي انفطرت له القلوب تحول فيما بعد إلى مصدر سخرية وتندر، حينها قلت لصديق لنا مشترك: سأخبر صديقنا نعمان بما حدث وخاصة لنساء حينا، فكان جوابه قاسياً، وبما إنني لن أذكر لك اسمه فسأكتفي برده، قال: دعك من هذا المنافق الذي استغل قضية شعبه للوصول إلى هناك، الذي وبدل أن يتحول إلى لسان حال من خرج باسمهم؛ تحول إلى لسان يلحس أفخاذ عاهرات موطنه الجديد، يسكب عليها النبيذ أو السمن البلدي الذي ترسله أمه له بين الحين والآخر، ويلحسها مثل كلب، ذلك السمن الذي كان يحلم بتذوقه ممزوجاً بالبيض البلدي. أين هو من كل ما يحدث وما حدث في الثاني عشر من آذار سنة 2004 في مدينته التي يزعم أنه مجنونها: مجنون "قامشلو"، يبدو أنه ترك قاموسه الثوري هنا ورحل كما يحدث الآن مع كثير من الثوريين الطارئين في هذه الأيام . من الشباب وغير الشباب؟
لا تنزعج، ليس هذا الصديق أول من يوجه لك سهام النقد ولن يكون آخرهم، الحساد عندنا كثر، إذ كيف لا يكونون كثر وأخبار تحولك إلى "لورد" قد وصلت إلى كل من يعرفك. يعلم الله أنني دافعت عنك كثيراً، وأكدت لهم بأنك تغيرت ولم تعد تحدثني عن بطولاتك ومغامراتك النسائية كما كنت تفعل في السابق، بل رحت في كل مكالماتك الأخيرة ورسائلك تركز على أخبار الثورة.
عفواً، ناقل الشتيمة ليس بشاتم. ولكن بهذه الكلمة رد أغلب الأصدقاء على ما قلت بقوة وقرف كبصقة،
ولكن قل لي يا صاحبي، مما تخشى وأنت هناك في بلادك الجديدة وبعيداً عن متناول اليد؟! حتى تواصلك مع الأصدقاء يكاد يقتصر على حديثك معي فقط! ومع أهلك حين ينفد لحم القلي الذي يرسلونه لك، ذلك اللحم المطبوخ والمجفف الذي كنا نحلم كلانا بالتهام تنكة كاملة منه. وكم كانت سعادتنا كبيرة حين كان يطلب أحدهم منا مشاركته هذا الطعام المزدان بعيون البيض البلدي والمضاف إليه القليل من عصير الليمون.
ستقول لي: لقد تغيرتُ، غيرتني الثورة التي كنا ننتظرها على أحرٍّ من الجمر منذ نعومة أظفارنا وعواطفنا وعقولنا، أعلم ذلك، فمن منا لم تغيره هذه الثورة؟ بل ما الذي لم تغيره الثورة؟ لست الوحيد من تغير، وإذا كانت الغربة قد غيرتك كما يقولون؛ فجعلت منك أنت الشاب الوطني والمثالي رجلاً داعراً، ثم حولتك أخبار الثورة إلى متابع ومتعاطف معنا، كما تقول، فإن أيامنا المجنونة هذه قد غيرتنا جميعاً، غيرت شعباً بكامله، فلم تعد الكلمات تعني ما كانت تعنيه قبلا، ولا المبادئ هي المبادئ، لم يبق أحد على حاله، اللهم سوى الحمقى وأولئك المبتلين بداء تكلس العقلية،
لا أعرف ماذا أسمي ما يحدث، ولماذا حدث كل هذا التغير فجأة رغم طول انتظارنا له حتى عيّل الصبر، هل هو الجوع؟ الجوع إلى الحرية كما يقولون: حرية تتجاوز ملء البطون ولحس أفخاذ مصقولة كالكلاب؟ لا أعرف، لم أعدْ أعرف شيئاً.
ما أعرفه يا نعمان، بل ما أحتاج إليه الآن هو النوم، النوم الهانئ والعميق الذي أصبح أمنية عزيزة وصعبة المنال، بل ضرورة للاستعداد لقضاء سهرة أخرى أمام كوة الفرن، ولأدعك تكرع ما تبقى ما في كأسك من خمر، أو تقبيل أماكن ولحس زوايا وتضاريس من جسد المرأة التي برفقتك، فأنا أعلم أن تغيرك هذا وتعاطفك ليس سوى حفنة من الكلمات: كلمات، كلمات.. كلمات.
منذ زمن بعيد، وعندما كنت أنصت لحديثك عبر الهاتف وأنت تروي لي بصفاقة قصص مغامراتك العاطفية والحياة الهانئة التي تعيشها هناك، متجاهلاً ما أعانيه من جوع، جوع لكل شيء، كانت كلمة واحدة تتردد في داخلي كثيراً ولم أستطع النطق بها رغم محاولات كثيرة لفعل ذلك، أما الآن وبمناسبة حرية التعبير وغيرها من الحريات أقولها بصراحة وبكامل الحرية: أنت كلب.
حين وصلت عربة سانتا كلوز الثورات العربية إلى هذا البلد وخرج المقهورون من سكانه للاحتفاء به في مظاهرات عارمة مطالبة بهدايا لا تُختزل في تأمين الخبز وثبات سعره، كما كانت المعارضة المسبقة الصنع تردده كمطلب استراتيجي، وبأمان لا يقتصر على الأرواح الميتة؛ فضيلة السلطة المرهونة بدوام موت الأرواح، وتفعيل الملك لله والشعب لا للسلطان وأتباعه، كان من البديهي أن تعترض الأشباح عربة الميلاد الجديد التي كانت تجوب المدن والبلدات وتكسر عجلاتها وتلطخ جسد سانتا كلوز لا ثيابه بالدم لا باللون الأحمر المعتاد.
ظن الناس أن الثورة ستحقق ما تريده في وقت غير طويل أسوة بغيرها من البلاد العربية، رغم علم الجميع بطبيعة نظامهم الحديدي، وبأن الحصول على الحرية وممارستها في شوارع أرصفتها نظيفة من أكشاك باعة مزدوجي العمل والانتماء، ومدارس للعلم لا للتلقين الايديولوجي والتمجيد المجاني، وأماكن عمل نوافذها مفتوحة لدخول الهواء النقي لا لتنصت أجهزة الأمن، وبأن كل ما كان يصبون إليه قد أصبح أخيراً في متناول اليد التي كانت قصيرة، ومبهجة للعين التي كانت بصيرة وكسيرة.
ولكن، وبعد أن طال أمد الثورة التي شارفت على السنتين، وكثُرت الخلافات حول طبيعتها وتوجهاتها وسلامة سيرها من جهات عديدة، ليس ممن هم خارجها أو على الضد منها فقط، بل ممن قامت من أجلهم بالدرجة الأساس. أفراداً وجماعات، مكونات دينية وقومية ومذهبية وسياسية. فإن المكاشفة أصبحت ضرورة واجبة، وبدءاً من البديهيات، والأوليات، وفي وضع كان فيه كل شيء مؤجلاً وغير منجز مثل القضية القومية الكردية وتداول السلطات والحريات العامة.. وقبل كل شيء وبعد كل شيء يأتي الخبز.
ورب قائل يسارع إلى تكرار قول السيد المسيح دون فهم لأبعاده التي أرادها رسول السلام: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، يقولها وهو شبعان، ولو كان جائعاً فلا شك أنه سيارع بالقول :ولكن كيف يمكن للإنسان كي يحيا أن يعيش بلا خبز؟
لم يكن المواطن السوري يتخيل أن يفقد الخبز، لقمته التي هي منحة من الطبيعة والله وأمنا الأرض، أرض وطنه، مشهد بدأ ينهض أمام الأبصار في كل ساعة وحين، حتى أصبح منظر المواطن السوري وهو ينظر إلى رغيف الخبز البعيد عنه أشبه بمنظر الرضيع الذي يمد يده إلى القمر، وإذا كان منظر الرضيع الذي يرنو إلى القمر وهو يكركر ضاحكاً يثير في النفس البهجة والسرور، فإنه في حال المواطن الحزين الذي يسعى للحصول على هذا "القمر" يثير الحزن والغضب والخزي.
إذ أن مشهد تدافع الناس على نافذة المخابز في طوابير طويلة تتجاوز مرمى النظر، وقوة حفظ النظام من عسكر وحراميه تتوزع في المكان وهي تطلق الصياح والسباب والرصاص فوق الأجساد المتماوجة والمتدافعة كالأغنام الُمساقة إلى المرعى أو المسلخ، منظر يجعل من يتابعه ممن انتفض وثار دون تدبير وتفكير يراجع حساباته التي لم تتفق مع حساب البيدر، ويجعل في الوقت نفسه من كل من كان قاعداً وأكتفى بمراقبة رجحان كفتي الميزان ولم يساهم في هذه الثورة منذ اليوم الأول يندم على فعلته،
من العجب العجاب أن المواطن السوري المهدور الكرامة على مدى عقود من الزمن، أصبح في هذه الأيام يشاهد كرامته تسفح في غير مكان من أجل تأمين معاش يومه وهو ساكت، ليس كشيطان أخرس بل كعزيز نفس ذل، وإذا كان ذلك يحدث في أكثر من مكان، فإنه يتجلى بأوضح واقسى صورة له أمام كوى الأفران، وخاصة أمام كوة الفرن الآلي، وذلك حين يتلقى سباب عناصر حفظ النظام أو لسعة عصا أحد أتباعهم المتكاثرين على مضض، أو حين يرسل زوجته أو أخته أو أمه إلى الفرن بدلاً عنه، لا لمرض أصابه أو عجز أقعده، بل لتساهم معه في شراء كمية أكبر من الخبز تكفي لسدّ جوع عائلته لثلاثة أيام، أو طمعاً في الحصول على الخبز في وقت أبكر لا يصل إلى نصف يوم، نظراً لقلة عدد النساء الواقفات في الطابور الخاص بهن بالمقارنة بطوابير الرجال، فيضطر إلى الوقوف في طابوره الرابع أو الخامس ومتابعة زوجته وهي تتحول إلى كومة عجين تتبدل وتتشكل في أشكال مختلفة وسط أمواج الأجساد المتدافعة، وعيناها ترنوان إلى كوة البيع برجاء وحلم، أو تخصان عناصر حفظ النظام بنظرات التملق أو الخوف وربما(؟!!) يتابع كل ذلك وهو الذي لم يسبق له أن شاهدها في حال كهذه وهي في أضعف حالاتها، أو حتى وهي في أمتع الحالات التي راحت بدورها تتراجع في ليل الوطن الطويل، ويزداد منسوب التعاسة والقهر لديه حين يطلق عنصر حفظ النظام نحوها ونحو الجموع المتدافعة من نساء ورجال صيحات الغضب والشتائم وزخات الرصاص، ويد ذلك العنصر أو أحد حماته تمتد نحو صدرها بقصد دفعها بعيداً عن الكوة، فيصمت بالعاً غضبه وحنقه كمن يبتلع بصاقه وقيئه، إذ كيف يحدث ذلك له هو الذي كان على الدوام يحرص أشد الحرص على ألا يمسها سوء أو تمتد إليها يد غير بريئة، إذ كيف يكون هو، لا أحد غيره، من يدفعها إلى ذلك؟! ثم يضطر، إلى متابعتها، خلسة أو تلصصاً، بنظرات كسيرة كقواد حديث العهد بمهنته أو دوره الجديد الذي أحدثته هذه الأزمة في المسيرة الثورة.
ماذا يمكن أن تفعله الثورة بلا خبز؟!! خبز الطعام، رغيف الخبز، وليس خبز الايمان أو خبز المعرفة، المادة الأولية والأساسية على موائد الغالبية الساحقة.
لم يعد أحد يملك الوقت لمتابعة ما يحدث في المناطق الساخنة من مجازر وأهوال بتعاطف أو غضب كما كان يحدث قبل زمن قصير، ليس لبلادة أو مساومة أو (تطنيش) أو تواطؤ كما يحلو لبعض المبتلين بداء التعصب وصفه ولصقه بمن يخالفهم مذهباً أو قومية أو توجهاً سياسياً، ولا بسبب انقطاع التيار الكهربائي وحده، بل بسبب قضاء وقت ليس بالقصير بانتظار الحصول على الخبز، الخبز بالدرجة الأساس والمواد التموينية الأخرى، وقت يتجاوز أحياناً نصف يوم، أو ليلة كاملة تبدأ مع غروب الشمس وتنتهي مع بداية شروقها. إذ في سوريا فقط تنام الشمس ولا ينام المواطن، وكيف يفعل ذلك وهو ينام ويصحو أمام باب الأفران بانتظار الحصول على الخبز لا بانتظار غودو أو المهدي أو حتى المسيح. وليس في هذا مبالغة إلا لمن يحصل على خبزه من السماسرة بثلاثة أو أربعة أضعاف ثمن الربطة الواحدة...وبشق الأنفس.
لم يعد كثير من العامة بل كثير من الخاصة المعنيين بالهم العام يفكر بما يقوله المحللون عن الوضع الداخلي، لم يعد هؤلاء يسألون عن آخر التطورات وطروحات الحل التي تجود به هذه الجهة الدولية أو تلك، إذ كيف يفعل ذلك وهو يدرك أن هذا الفعل سيكون على حساب حجز دور له في الطابور الممتد كثعبان أمام كوة بيع الخبز. لكسب ساعة أو ساعتين من الوقت، إضافة إلى أنه بات يدرك في دخيلة نفسه أن قضيته أصبحت لعبة دولية بين اللاعبين الدوليين الرئيسيين، وإنه قد تحول إلى مادة للبيع، مادة رخيصة في أسواق الإعلام وقاعات المؤتمرات لشخصيات وفاعليات تتوسد أرائك من حرير في فنادق وأبراج عالية، وتتناول طعامها على موائد عامرة بأصناف لم يسبق لها أن رأتها أو تذوقت صنفاً واحداً منها.
بورصة سياسية وإعلامية مادتها وطن بائس ومواطن مقهور.
الشعوب أيضاً تسير على بطونها وليس الجيوش فقط كما قال نابليون ذات تاريخ، فلا يمكن لشعب يجوع أن يدوم سكوته طويلاً، ليس ضد من سلب منه لقمة خبزه فقط، بل لمن يتجار بها أيضاً. لم يعد الأمر مقتصراً على كرامته وحريته المغيبة منذ عقود، بل أصبح يهدد وجوده وبقاءه البيولوجي الفيزيقي نفسه.
إن غريزة البقاء التي حفظت النوع البشري من خطر الوحوش ذات تاريخ فلجأت إلى أساليب وطرائق كان بعضها أكثر وحشية من خصومه الوحوش أنفسهم، بدأ الجوع الذي يهدد وجوده يوقظ تلك الغريزة التي لن تولي القيم والأعراف والضمائر أدنى أهمية، وستعيد الإنسان إلى سيرته الأولى بعد أن تنزع عنه كل ما جعل منه مخلوقاً في أحسن تقويم وتكوين.
وإذا كنا لم نستغرب خروج من عاد إلى بيته ووجد أباه أو أخاه قتيلاً فخرج إلى الشارع ليقاتل، فلن نستغرب مثل الغفاري من لم يجد في بيته قوت خبز وخرج يقاتل وحسب، بل لن نستغرب عودة الإنسان الجائع في غابة كان اسمه وطن الجميع إلى بدائيته وحشاً كاسراً. وسيكون من الطبيعي أن يلتهم هذا الوحش كل من أعاده إلى بدائيته من: حكام أهدروا كرامته وانسانيته، وممثلين عنه من نكرات تحول بعض منهم إلى نجوم إعلام وأباطرة مال، كما تحول أصحاب الدكاكين الحزبية الفقيرة والسوابق غير النظيفة إلى ساسة يشار لهم بالبنان؟!!!
سيأتي يوم لن ينفع فيه أحداً منا إبداء مشاعر الاستهجان أو الدهشة أو الندم أو التباكي على ما يحدث..
فحذار.. إن معالم هذا المشهد المفزع بدأ بالارتسام في ليل سوريا الحبيبة الذي طال كثيراً.